شهد قطاع النفط الليبي انتعاشة قوية في الشهور الماضية، لا سيما منذ استعادة الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، في سبتمبر 2016، السيطرة على منطقة الهلال النفطي، والإعلان عن توحيد مؤسستى النفط في شرق وغرب البلاد في أواخر عام 2016، وهو ما أدى إلى تحسين الأوضاع الأمنية بمرافق النفط الليبية بشكل غير مسبوق.
وكما أوضحت المؤشرات، فإن الاستقرار الأمني ساهم في زيادة الإنتاج ليتخطى مليون برميل يوميًا في يوليو الماضي، كما نجحت المؤسسة الوطنية الليبية للنفط في الوصول إلى تفاهمات استثمارية جديدة مع عدد من الشركات الغربية لتطوير الحقول، بالإضافة إلى إبرام عدد من الشراكات التسويقية الجديدة.
لكن في مقابل هذه التطورات الإيجابية، تجددت الاضطرابات في منطقة الهلال النفطي في أغسطس الجاري، حيث شهدت ثلاثة حقول رئيسية وعلى رأسها حقل الشرارة، في 27 أغسطس، انقطاعًا في الإمدادات بسبب إغلاق ميليشيات مسلحة لخطوط الأنابيب الواصلة لهذه الحقول، لاعتبارات اقتصادية، وهو ما دفع المؤسسة الوطنية للنفط إلى إعلان حالة القوة القاهرة. فضلاً عن ذلك، تواجه ليبيا ظاهرة ممتدة لتهريب الوقود عن طريق البحر، وهو ما أفقد القطاع في المجمل عوائد كبيرة كان من الممكن جنيها.
ورغم أن التوترات السابقة قد تؤثر على الإنتاج الليبي، إلا أن هذا التأثير لن يدوم طويلاً، وذلك بخلاف الوضع السابق حينما كان يتم إغلاق الحقول لفترة طويلة، في حين أثبتت الشواهد حاليًا أنه بإمكان قوات الجيش الليبي، وبالتعاون مع المؤسسة الوطنية للنفط، تجاوز الاحتجاجات في غضون أيام عن طريق آليات التهديد أو الترغيب، وهو ما أدى إلى استقرار الإنتاج الليبي بشكل عام. ومع ذلك، ونظرًا للمخاطر السياسية القائمة، لن يكون بمقدور الحكومة، في الغالب، الوصول إلى هدفها ببلوغ الإنتاج أكثر من مليون برميل خلال الفترة المقبلة.
طفرة كبيرة:
فرض نجاح الجيش الوطني الليبي في بسط سيطرته على حقول وموانئ النفط بمنطقة الهلال النفطي في سبتمبر 2016، إلى جانب توصل حكومتى الشرق والغرب لتفاهمات حول توحيد المؤسسات النفطية الموجودة في الشرق والغرب، تغييرات إيجابية في القطاع، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- ارتفاع الإنتاج: وصل إنتاج ليبيا من النفط، بنهاية يوليو الماضي، إلى أعلى مستوى له منذ منتصف عام 2013، حيث ارتفع الإنتاج بزيادة شهرية قدرها 170 ألف برميل يوميًا ليصل إلى 1.01 مليون برميل يوميًا وفق تقديرات الوكالة الدولية للطاقة، وتعود هذه الطفرة بالأساس إلى إعادة تشغيل الحقول الرئيسية، ولا سيما حقل الشرارة، الذي ارتفع إنتاجه بمقدار 710 ألف برميل يوميًا في الشهور الماضية.
ومع الزيادات الكبيرة في الإنتاج، توقع رئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله، في يوليو الماضي، أن يصل إنتاج ليبيا من النفط إلى 1.25 مليون برميل يوميًا بنهاية العام الحالي و1.5 مليون برميل يوميًا بنهاية عام 2018، فيما قد يبلغ الإنتاج نحو 2.1 مليون برميل يوميًا خلال الأربع أو الخمس سنوات المقبلة.
2- تفاهمات استثمارية: سعت المؤسسة الوطنية للنفط، في الشهور الماضية، إلى إبرام اتفاقات استثمارية مع الشركات الأجنبية من أجل تطوير حقول النفط في البلاد والوصول بالإنتاج إلى 2.1 مليون برميل يوميًا في الخمس سنوات المقبلة، وهو ما يتطلب ضخ استثمارات تقدر بنحو 19 مليار دولار وفق تقديرات المؤسسة.
وفي هذا الصدد، وقعت المؤسسة، في فبراير الماضي، اتفاقية تعاونية مع شركة "روسنفت" الروسية المملوكة للدولة لتعزيز استثمارات الأخيرة بقطاع النفط. كما أجرت محادثات في الشهر نفسه مع شركات أخرى مثل شركة "ريبسول" الأسبانية وشركة "ميدكو" الإندونيسية وشركة "فينترسهال" الألمانية، بالإضافة إلى شركة "أو أم في" النمساوية، لضخ رؤوس أموال من أجل تطوير حقول الإنتاج.
3- شراكات تسويقية: تمكنت ليبيا من إعادة جذب اهتمام شركات تجارة النفط العالمية إليها في الفترة الأخيرة، وفي هذا السياق أعادت شركة "رويال داتش شل" البريطانية الهولندية مؤخرًا تعاونها مع السلطات في ليبيا لتسويق الخام الليبي. وفي 20 أغسطس الجاري، نقلت الشركة شحنة تبلغ 600 ألف برميل من النفط الخام من ميناء الزويتينة الليبي للمرة الأولى منذ خمس سنوات.
متغيرات قائمة:
رغم التحسن الملحوظ في أداء قطاع النفط الليبي، إلا أنه لا يزال يشهد حالة من عدم الاستقرار بسبب عاملين رئيسيين: يتمثل الأول، في إغلاق الحقول، حيث شهدت مرافق النفط الرئيسية توترًا متزايدًا منذ أوائل أغسطس الجاري، على خلفية قيام ميليشيات مسلحة وعمال المرافق بوقف عمليات إنتاج الحقول ونقل الخام بالموانئ، وهو ما دفع المؤسسة الوطنية للنفط إلى إعلان حالة القوة القاهرة أكثر من مرة في عدة مواقع.
ففي الأسبوع الثالث من الشهر الجاري، بدأت هذه التوترات عندما قام عمال ميناء الزويتينة بالامتناع عن نقل النفط لحين استيفاء مطالبهم بما في ذلك الحصول على راتب لمدة 20 شهرًا، وهو ما تم احتواءه بعد إبلاغ العمال بتلبية مطالبهم. فيما أغلقت ثلاثة حقول أخرى من قبل ميليشيات مسلحة، في 27 من الشهر ذاته، بهدف الضغط على الحكومة لتلبية المطالب الاقتصادية للعمال.
وفي هذا السياق، أغلقت كتائب الزنتان المسلحة خط الأنابيب الواصل إلى حقل الشرارة النفطي، للمطالبة بمزيد من إمدادات الوقود لمنطقة الزنتان وتحسين أوضاعها الاقتصادية، وهو ما اضطر المؤسسة الوطنية للنفط إلى إعلان حالة القوة القاهرة في تحميلات خام الشرارة من ميناء الزاوية. وبالمثل، أعلنت المؤسسة حالة القوة القاهرة في صادرات خام مليتة بسبب إغلاق خط الأنابيب الواصل إلى حقل الفيل أيضًا، كما قامت قوات حراسة منشآت النفط بإغلاق خط الأنابيب الواصل إلى حقل الحمادة.
وينصرف الثاني، إلى تهريب النفط ومشتقاته عن طريق البحر، وهو ما دفع مجلس الأمن، في يونيو الماضي، إلى إصدار القرار رقم 2362 الذي يقضي بتجريم صادرات النفط غير المشروعة من ليبيا لتشمل أيضًا المنتجات النفطية المكررة في محاولة لكبح عمليات تهريب الوقود المنخفض السعر في السوق المحلي إلى الأسواق الأوروبية المجاورة. وفي بعض الأحيان، بلغت كميات تهريب الوقود الشهرية مستويات غير مسبوقة على غرار شهر فبراير 2017 الذي وصلت فيه إلى 11.5 ألف طن وفق تقديرات الأمم المتحدة.
ورغم أهمية هذا القرار في إلزام الدول والشركات بالتعاون مع السلطات الليبية لوقف هذه الظاهرة، إلا أنه ثبت أنه لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع في ظل انخراط قوات محلية في عمليات التهريب مثل قوات حرس المنشآت النفطية التي تبين مشاركتها في تهريب الوقود في بلدتي الزاوية وزوارة في غرب البلاد وتساندها في ذلك جماعات الجريمة غير المنظمة في عدد من الدول الأوروبية المواجهة للشواطئ الليبية، وهو ما قد يصعب على الحكومة الليبية أو الدول الأوروبية تتبع هذه الشحنات أو وقفها.
مستقبل محتمل:
كما يبدو في الظاهر، فإن تجدد الاضطرابات في منطقة الهلال النفطي سيمثل عائقًا كبيرًا أمام الجهود التي تبذلها المؤسسة الوطنية للنفط من أجل زيادة الإنتاج. ورغم ذلك، فإن الاحتجاجات الحالية لن تدوم طويلاً، على ما يبدو، كما كان عليه الحال في السنوات السابقة، حيث كانت تغلق الحقول لفترة طويلة، بينما الآن يتم احتواء حالات التوقف في غضون أيام لتعود التدفقات مجددًا. وباستخدام آليات متفاوتة بين التهديد والترغيب، تمكنت المؤسسة من فتح المرافق النفطية مثل ميناء الزويتينة الذي أغلق لمدة أيام، في شهر أغسطس الجاري، وأعيد فتحه بعد تلبية مطالب العمال، وهو ما حدث أيضًا في حقل الشرارة الذي شهد عدة اضطرابات قصيرة هذا العام.
ومع ذلك، يظل نمو الإنتاج الليبي من النفط على المحك خلال الفترة المقبلة، ليس بسبب الاضطرابات التي تكون في أغلبها لدوافع اقتصادية، وإنما أيضًا بسبب ضغوط المنافسة بين قوات الجيش الليبي والقوات الموازية في المناطق الشرقية. وفي حال تجدد هذا الصراع قد يصعب على ليبيا تلبية طموحاتها بتخطي مستوى الإنتاج 2 مليون برميل يوميًا.
وختامًا، يمكن القول إن حفاظ قطاع النفط الليبي على المكاسب التي حققها في الفترة الماضية عرضة لكثير من المخاطر السياسية التي تفرضها الاحتجاجات ذات الصبغة الاقتصادية والمنافسة مع الجماعات المسلحة في شرق البلاد.